30‏/11‏/2009

شرح الأصول العشرين (التضحية والطاعة)

29‏/11‏/2009

الشجــرة الطيـــبة

الشجرة الطيبة

قـلـبـــي يئـــن

قلبي يئن ,, روحي تنوح
تنذرف دموعي وكأنها الأنهار تسيل
عيني تبكي .. لا والله بل تقطر دماً
وقلبي يتطع إرباً إرباً
هل حقاً أشد الأوقات أن تضحك وفي عينك ألف دمعة
لا والله
بل أشدها وقعاً وأكثرها فتكا بالقلوب
هي عندنا تموت حزنا تُـغْـتَـال قهراً ولا تجد من يبكي عليك
تشعر بأنك تختنق تصرخ بأعلى صوت
لكنك تفاجيء
بأنه ليس هنالك من يجيب
ترى الأحباب من حولك .. لكنهم غفلوا عنك
كأنهم لا يرونك ,, لا يشعرون بوجودك
وكأنك بينهم كسراب
لا وجود لك
أو كطيف إن كان خيراً فيا هلا
وإن كان ألما ,, فتجاهله أفضل
تبكي فلا تجد من يمسح الدموع
وتصرخ فلا تجد من يواسي القلب الموجوع
وتختنق فلا تجد من يبكي وينوح
أين أنتم
ألا تروني...
إن غفلت أعينكم فهل تغفل قلوبكم عنــي ؟؟؟
طالما رادوني حلم غريب
كنت أحب دوما نسيانه
كنت أحلم في منامي أني وحيدة تائهة
أرى أشخاصا أعرفهم جيدا ويعرفونني
وأنا أتألم وأصرخ
إلا أنني أراهم وكأنهم لا يسمعون
كنت حين أستيقظ أستعيذ بالله وأقول لا ليست حقيقة .. انها نزغات من الشيطان
أما الآن
أصبحت أراها واقعاً يتجسد في كل مكان
.....
إلى كل من أحبهم
لن أستجدي حبكم
فإن لم تسمعوا صوتي
فهذه آآآهاتي

حتى تكـــون أسعــــد النـاس .. خـواطـــر للدكـتــور عـائــض القـرنـــي

27‏/11‏/2009

حتى خروف العيد بقى صيني

21‏/11‏/2009

أيها الحجاج

الحج ليس للحجاج فقط

الحج ليس للحجاج فقط أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه.. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد ألا إله إلا الله وحده ولا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعد.. فقد توقفت كثيرًا أمام حديث مشهور من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم, رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: 1- شهادة أن لا إله الله, وأن محمداً رسول الله 2- وإقام الصلاة 3- وايتاء الزكاة 4- وصوم رمضان 5- وحج البيت.." ومع أن الحديث مشهور جدًا, ومتفق عليه, ويحفظه تقريبًا عامة المسلمين.. إلا أنه يحتاج إلى وقفة طويلة للتأمل، تعالوا بنا نفكر سويًّا...!! الإسلام بناء ضخم هائل، وصرح عظيم، فيه عدد كبير جدًا من التشريعات والقوانين والأحكام، وهو نظام حياة كامل، ودستور عظيم.. ينظم معاملة المسلم مع ربه ومع أسرته ومع جيرانه ومع أقاربه ومع أصحابه... بل مع أعدائه أيضًا!... تشريعات لا حصر لها!! يعجب الإنسان ويذهب بعقله بعيدًا مع هذا الكم الهائل من القوانين والأحكام في هذا الدين العظيم، وسبحان الله.. فقد اختار الله عز وجل من هذا البناء الضخم الكبير (الإسلام) خمسة أمور فقط جعلها أساسًا لكل هذا البناء، وكل شيء بعد هذه الأشياء الخمسة ينبني عليها، ولو أن ركنًا من هذه الأركان الخمسة - التي هي الأساس - سقط لسقط هذا البناء كله، وإلى هنا لا يوجد شيء يثير الدهشة أو الحيرة, لكن المحيّر حقًا هو أن يكون الحج أحد هذه الأعمدة التي ينبني عليها الإسلام... لماذا الحج بالذات؟!
الحج عبادة لا يكلَّف بها المسلم أو المسلمة إلا مرة واحدة في العمر كله, وفي حال الاستطاعة.. ومعنى ذلك أن من لا يستطيع الحج فلن يُفْرَضَ عليه أداؤه.. وبالتالي فإن ملايين المسلمين على مرّ العصور لم ولن يحجوا لعدم الاستطاعة سواءٌ كان لعدم الاستطاعة ماليًا أو معنويًّا، وحتى من كُتب لهم الحج.. فالكثير الغالب منهم لم يحج إلا مرةً واحدة في عمره كله الذي قد يمتد ستين أو سبعين سنة! "أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين", ومن ثَمَّ لا ينفق الإنسان خلال هذا العمر الطويل في هذه العبادة إلا أسبوعين أو ثلاثة.. أو حتى شهرًا أو اثنين.. كم يمثل ذلك من العمر كله؟! فضلاً عمَّا نسمع عنه الآن من أنواع الحج السريع، والحج الفاخر، والحج المريح... التي يستطيع الحاج فيها أن ينهي كل المناسك في أسبوع واحد، ويقيم في أرقى وأفخم الفنادق، ويكون أقرب إلى الحرم من أهل مكة نفسها... وهذا الوقت في عمر الإنسان بسيط جدًا جدًا، سواءً كان حجًا سريعًا أو بطيئًا، فلماذا - إذن - يختار الله عز وجل هذه العبادة العارضة في حياة المسلم ليجعلها أساسًا لهذا الدين وركنًا من أركان الإسلام، وعمودًا من أعمدته؟! مع أنه ليس مطلوبًا إلا مرة واحدة في العمر للمستطيع فقط، ومن لم يستطع فلن يؤديه أصلاً؟! في حين أنك لو نظرت إلى شهادة التوحيد تجد أنها أصل الإسلام, وعليها تُبنى سائر الشرائع.. وكذلك الصلاة "عماد الدين".. تؤدَّى خمس مرات يوميَّا.. والزكاة كل عام, وكذلك الصوم.. أما الحج فشأنه عجيب؛ فمع كونه ركنًا من أركان الإسلام كتلك العبادات السابقة.. إلا أنه لا يشغل من حياة الإنسان إلا وقتًا محدودًا جدًا.. وقد لا يؤديه العبد أصلاً إن فقد الاستطاعة!!
الأمر إذن – كما ذكرت - يحتاج إلى وقفة تدبر وتأمل؛ فلا بد أن هناك فوائد تتحقق في الحج تؤدي إلى تغيّر في حياة المسلم الذي أدّى هذه الفريضة, ولا بد أن الحج سيؤثر على حياة الإنسان بكاملها في الأرض؛ لأن هذه الزيارة العارضة لبيت الله الحرام ربما تكون سببًا في صلاح الفرد رجلاً كان أو امرأةً، ومن ثَمَّ يستطيع تطبيق بقية شرائع الإسلام، وبهذا يصلح الحج أن يكون ركنًا من الأركان التي ينبني عليها الإسلام... لكن!!
إذا كان هذا الكلام صحيحًا في حقِّ من حج من الرجال والنساء، فما بال أولئك الذين لم يستطيعوا الحج لأي عذر من الأعذار، وهم ليسوا قلة؟
لماذا جعل الله عز وجل الحج من أساسات الإسلام الرئيسية مع أن هناك طائفة كبيرة جدًا من المؤمنين لم يقوموا به مع كونهم مؤمنين وراغبين في الحج.. بل مشتاقين إليه؟!
من المؤكد - وبلا شك - أن هناك فائدة ما تعود على الأمة كلها، سواءً كانوا من الحجاج الذين يحجون كل عام، أو ممن حجّ مرةً واحدة، أو ممن لم يحج مطلقًا.. وقد لا يحج في حياته كلها... "ليشهدوا منافع لهم.."
الحج يفيد الأمة كلها، ومن ثَمَّ فإن الله تعالى جعله ركنًا أساسيًا ينبني عليه الإسلام. جلست أفكر ، ما هي مقاصد الشريعة في الحج؟ ما هي الغاية من الحج؟ ما هي الفوائد المتحققة والآثار الناتجة عن الحج؟؟
تعالوا بنا نبحث جيدًا لنعرف لماذا اختار الله الحج ليكون من أعمدة الإسلام، وجدت أن الله عز وجل يقول: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ, وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَكُلُوا مِنْهَا, وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ"..
في الحج إذن - كما قال الله عز وجل - "منافع"، وكلمة "منافع" كلمة شاملة عامة، لا أعتقد أنها يجب أن تُقصر على المنافع التجارية والمالية فقط، لأن بعض الدعاة والمفسرين يقصرون كلمة المنافع على التجارة، بمعنى أنك ذاهب للحج، ويمكن أن تساهم في إنعاش التجارة فتبيع وتشتري...
والحق أن قصر منافع الحج على التجارة فقط تحديد غير مقبول للنص ، وفيه تقليل من معنى هذه الكلمة العامة الشاملة، وخاصة في هذا الزمان الذي نعيش فيه، فرزق المسلمين هناك من البترول في يوم أو يومين يعادل تجارة الحج كلها، ويتأكد هذا المعنى إذا أخذنا في الاعتبار أن المنفعة الحقيقية التي تعود من التجارة في الحج إنما هي للصين واليابان لأنهما من قام بإنتاج أغلب سلع التجارة التي تروج أيام الحج.. وليس المسلمون!!.
لا بد - إذن - أن نفكر في منافع الحج الرئيسية... منافع الحج:
الحق أن أهم منفعة في الحج أنه يذكّر الأمة كلها - الحجاج وغير الحجاج - بيوم القيامة؛ فوجه الشبه كبير جدًا بين الحج ويوم القيامة؛ الحاج يمرّ بأكثر من موقف يذكره بيوم القيامة، ثم يعود فيحكي لكثير من الناس هذه المواقف، فيتذكر الناس جميعًا يوم القيامة، ولن نجد في الأمة كلها أحدًا لا يعرف اثنين أو ثلاثة أو أكثر ممن حج وحكى له عن المواقف التي مرّ بها في حجه...
وقد وضع الله محبة الحج في قلوب كل المسلمين؛ فتجد أن غالبية المسلمين لديهم الحرص الشديد على أن يحجوا، وعلى أن يودعوا الحجاج عند سفرهم ويستقبلوهم عند عودتهم، ويزوروهم، ويسمعوا منهم؛ ليبقى موسم الحج موسمًا لتذكير الأمة بهذه المنافع العظيمة.. وبيوم القيامة. وقبل أن نذكر ملامح التشابه بين الحج ويوم القيامة ينبغي أن نقول: إن معظم الفساد والمعاصي التي تحدث في الأرض إنما تحدث بسبب نسيان يوم القيامة.. يوم الحساب الذي يُحاسَب فيه كل إنسان على ما قدم في دنياه، منذ أولى لحظات التكليف إلى لحظة الموت، والله عز وجل يقول: "إن الذين يَضِلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد.." لماذا؟ قال الله تعالى: "..بما نسوا يوم الحساب"!
فنسيان يوم الحساب كارثة عظيمة، ومصيبة كبيرة، ولو تذكَر الناس هذا اليوم لوُجِد الحل لكل المشاكل التي تعاني منها البشرية، ولذا كان أول ما ذكّر به النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أن بدأ الدعوة في مكة، هو هذا اليوم.. قال: "والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتبعثُنّ كما تستيقظون، ولتحاسبُنّ على ما تعملون، وإنها لجنّة أبدًا.. أو نار أبدًا" ذلك أن المرء إذا ظل متذكرًا ليوم القيامة لبقي في باله أن هنالك يومًا سوف يقدم فيه "كشف حساب" عن كل لحظة من لحظات عمره.. عن كل كلمة.. كل قرشٍ اكتسبه.. كل حركة، وكل سكَنة.. عن كل تعامل بينه وبين الناس.. وبينه وبين ربه سبحانه وتعالى..
فالحج صدمة كبرى تنبِّه الأمة كلها، توقظها من سباتها.. تذكِّرها بما كانت قد نسيته طويلاً.. وإذا تذكر المرء أنه محاسب، هل سيرتشي؟ هل سيظلم؟ هل سيسرق؟ هل سيعق والديه؟ هل سيتعدى على حقوق زوجته أو أولاده أو جيرانه .. أو حتى من لم يعرفهم؟؟ قطـعًا.. إن الإجـابة بالنفي، وهكذا ندرك أن صلاح الأرض في تذكر يوم الحساب ، فلنتذكر هذه الجملة جيدًا:
صلاح الأرض ـ كل الأرض ـ في تذكر يوم الحسـاب ) وَيـلٌ لِلْمُطَفِفِينَ * الذين َ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناسِ يَستَوفُون * وَإذَا كَالُوهُم أوْ وَزَنَوُهُم يُخْسِرُون * ألا يَظـُنُ أُولئكَ أنَهُم مَبْعُوثُون؟! * لِيَومٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النـاسُ لِربِ العَالَمِينَ( .. لو أدرك المطففون أنهم سيحاسَبون لما طففوا.. ويجب أن ننتبه إلى أن التطفيف ليس في التجـارة والميزان المادي فحسب، كلا.. إن التطفيف قد يكون في علاقتك بزوجتك؛ إذا كان لك حق أخذته بالكامل، أما إذا كان عليك حق تُـخسر في الميزان.. في علاقتك بأولادك.. بجيرانك.. بزملائك في العمل... حتى في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى نطفف!! فإذا حدثت لنا مشكلة أسرعنا في اللجوء إلى الله ، نرجوه ، وندعوه، ونخشع في صلاتنا ، ونُكثر من الصيام والصدقة.. والخضوع لله.. ) هُو الذي يسيركم في البحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريحٌ عاصفٌ وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين, فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق!! يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم.. ( هذا هو يوم الحساب الذي لو تذكره الناس لما تعاملوا مع المولى عز وجل بهذه الطريقة: ) ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون(.... الحج إذن تذكرة قوية وعلنية وواضحة وصريحة لكل المسلمين أننا سنرجع يومًا إلى الله... كيف يذكّرنا الحجّ بيوم الحساب؟
إننا نتذكّر يوم الحساب من أوّل خطوة نخطوها نحو الحج ... يحرص المسلم على جمع المال الذي يريد أن يؤدي به الحج من الحلال، ويدفع هذه المبالغ الكبيرة: عشرة آلاف أو خمسة عشر.. أو عشرين ألفًا! وأكثر من ذلك أحيانًا, ومع هذا كله يدفع المسلم هذه المبالغ وهو في غاية السعادة والسرور!! لماذا؟ لأنه سيؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى.. ثم يسترضي كل من يعرفهم ، ويعتذر لمن أساء إليه، ويؤدي ما عليه من ديون، وكأنه بذلك يستعد تمامًا ليوم الحساب، يجمع أهله.. يوصيهم، وينصحهم، ويدلهم على ما يفعلونه أثناء غيابه... والناس يودعونه قبل سفره.. أفواج كبيرة تودع الحجاج.. تُذكره, وتذكر الناس جميعًا أن هناك يومًا سيخرج المرء فيه بلا عودة!! ) كل نفسٍ ذائقة الموت ( ولكن أحدًا لا يرجع بعد موته. حتى ملابس الحج بالنسبة للرجل تذكره.. وتذكر الناس جميعًا بيوم القيامة؛ ففوق ما فيها من شبه بالكفن, ترى أن بعض جسد الحاج يتعرى؛ ينكشف كتف الحاج لكي يتذكر الناس جميعًا العري التام يوم القيامة، وهذا يذكرنا بالصورة التي نكون عليها يوم الحساب...
روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.. يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ"
وفي الحج يعيش الناس في جوٍّ أشبه ما يكون بيوم القيامة، الكلُّ يشعر بهذا المعنى، والأمة كلها تعيش هذه المعاني مع الحجيج، الناس جميعًا يتركون الدنيا وراء ظهورهم، ولا ينشغلون بغير الذكر والدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله عز وجل، والناس جميعًا واقفون في زحام شديد، وفي مكان واحد، وهكذا يُحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، وينادي عليهم المنادي: هلموا إلى ربكم - يا رب سلّم - هلموا إلى ربكم، فيقوم الناس جميعًا لربّ العالمين: "يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا".. كلّ الناس في الحج وقوف, وكل الناس يوم القيامة وقوف أيضًا: "وقِفُوهم.. إنهم مسئولون"، الناس في الحج في حرٍّ وعرق, وكذلك يوم القيامة يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، كما في الحديث الصحيح، في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا, وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ"
فالأمر إذن - يا إخواني - ليس ساعة أو ساعتين، لا.. الأمر شاق وطويل...
وإذا كان الحج هو العبادة الوحيدة التي يفرّغ لها المسلم أيامًا متتالية، فكذلك يوم القيامة يوم طويل: "إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا" وكما جاء في بعض التفسيرات أن اليوم القمطرير هو اليوم الطويل، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "مائة سنة" أي أن يوم القيامة يساوي مائة سنة، وقال كعب: بل ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم: خمسين ألف سنة!! والمؤكد أنه يوم طويل وعسير وصعب؛ فهو يحتاج إلى استعداد واهتمام كبيرين...
ومما يذكّر بيوم القيامة من مناسك الحج أيضًا السعي بين الصفا والمروة، ذهابًا وإيابًا، فيتذكر الناس السعي والحركة يوم القيامة: "يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون" ، يتذكر الناس عند سعيهم بين الصفا والمروة سعيَهُم يوم القيامة بين الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله عز وجل؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيردهم إلى نوح عليه السلام، فيردهم إلى إبراهيم عليه السلام، فيردهم إلى موسى عليه السلام، فيردهم إلى عيسى عليه السلام، فيردهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم...
وزيارة الحجاج لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم تكن من مناسك الحج إلا أنها تذكرك بأن الله عز وجل سيجمعك يومًا ما مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، تسلّم عليه وعلى أصحابه... وتصلّي في الروضة الشريفة وهي من رياض الجنة، وتعيش هذا الجوّ الرائع الذي يخرجك من جوّ الدنيا تمامًّا ويجعلك تعيش في جوّ الآخرة... إن كل من يحج بيت الله الحرام يشعر بكل هذه المعاني.. بل ويقصّها على كل من يلقى من الأهل والأحباب، ومهما بلغ من الجهد والتعب وبذل الجهد والمال في هذه الرحلة العظيمة، إلا أن الجميع يتمنى لو عاد مرة أخرى للحج.. لو عاد مرة أخرى للبيت الحرام.. لو عاد مرة أخرى لعرفات... يتمنى لو عاد مرة أخرى لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم... الأمة كلها تعيش هذه المعاني العظيمة التي تُذكر بيوم القيامة في كل عام مرة، لتتذكر يوم القيامة الذي ستعيشه بحقيقته بعد ذلك...
وإذا عاشت الأمة وتذكرت يوم القيامة بهذه الصورة العظيمة.. كيف سيكون حالها؟ وكيف سيكون وضعها بين الأمم؟
وبعد كل ما رأينا من العلاقة بين الحج ويوم القيامة نستطيع أن نفهم ونتدبر لماذا بدأ الله تعالى سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" ليس في القرآن شيءٌ عشوائيٌ على الإطلاق، فكل كلمة وكل حرف نزل بحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً"...
كنت أعجب كثيرًا عندما أقرأ سورة الحج وأتساءل: لماذا بدأ الله عز وجل سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة بدلًا من التذكير بأهمية الحج؟! لكن بعد تدبر هذا المعنى العظيم
- وهو أن الله عز وجل جعل الحج تذكيرًا للناس بيوم القيامة - تلاشى هذا العجب... فليس الهدف من الحج - إذن - إرهاق الناس وتكليفهم فوق طاقتهم: "مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ" ولكن الهدف هو تحقيق المنفعة للناس في الدنيا والآخرة.
لو تذكرنا يوم القيامة ستصبح حياتنا كلها آمنة ومستقرة بل وحياة الأرض كلها، وأيضًا سوف يتحقق لنا الخير في الآخرة... ومنافع الحج من الكثرة بمكان، بحيث تحتاج إلى صفحات كثيرة، وليس المجال هنا بمتسع لذكرها، ولكننا نشير - بإيجاز - إلى بعض هذه المنافع لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن دور غير الحجاج في موسم الحج. لقد ذكرنا المنفعة الأولى من منافع الحج وهي التذكير بيوم القيامة، ومن منافع الحج أيضًا:
ترسيخ فكرة الأمة الواحدة عند المسلمين:
الحج مؤتمر إسلامي عالمي مهيب، يلتقي فيه المسلمون من كل أقطار الدنيا، فيُغرس في القلوب شعور الأمة الواحدة، وهذه ولا شك من أعظم منافع الحج، وخاصة في هذه الأزمان التي تمرّ فيها الأمة بحالة تفكك شديد، نسأل الله عز وجل أن يوحد صفوف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها...
المنفعة الثالثة من منافع الحج: هي أن المسلم بعد الحج يفتح صفحة جديدة تمامًا مع الله عز وجل: فالحاج يرجع من حجه كيوم ولدته أمه، مهما ارتكب من الذنوب والمعاصي والآثام قبل حجه، وهذا الأمر يعطي أملًا كبيرًا للكثير من عصاة المسلمين الذين أسرفوا على أنفسهم، إن كثيرًا من المسلمين لا يلتزمون بالإسلام لشدة إحباطهم وعِظَم يأسهم لكثرة ما اقترفوا من الذنوب والمعاصي، الحج - إذن - يفتح صفحة جديدة للمسلمين ولا شك أن هذا الأمر له انعكاس واضح على الأمة الإسلامية بأسرها؛ لأنك في كل عام تكتسب أفرادًا جددًا جاوزوا الإحباط, وأضيفوا إلى قوة وطاقة الأمة الإسلامية.
المنفعة الرابعة من منافع الحج: هي أن الحج يربي الحجاج بل ويربي الأمةَ كلها على اتباع أوامر الله عز وجل دون جدل أو اعتراض
إننا نرى المؤمن من خلال تفاعله مع مناسك الحج، لا يشترط معرفة الحكمة لكي يتبع منهج الله عز وجل، فالمؤمن لا يسأل: لماذا الطواف؟ ولم كان سبع مرات؟ لماذا أقبّل الحجر؟ لماذا الحلق؟ لماذا هذه الهيئة في اللباس؟ لماذا الرمي بتسع وأربعين أو بسبعين من الجمرات؟... تفاصيل كثيرة قد لا تجد إجابة عن معظمها، لكن المؤمن دائمًا يردد:
"سمعنا وأطعنا"، إنها التربية على السمع والطاعة لله سبحانه وتعالى دون أدنى شكٍ أو تردد... ومن المفترض أن تتعلم الأمة كلها من كل موسم حجٍ أن تقول لربها: "سمعنا وأطعنا" لكل أمر من أوامرك يا ربنا، فعندما يسمع المؤمن بعد الحج أن الربا حرام سيقول: سمعًا وطاعةً يا رب، وعندما يسمع أن الرشوة حرام سيقول: سمعًا وطاعةً يا رب، وعندما يسمع أن الغيبة حرام سيقول: سمعًا وطاعةً يا رب، وعندما يؤمر بعدم موالاة الكفار سيقول: سمعًا وطاعةً يا رب... وهكذا مع سائر أوامر الإسلام، إن هذا الأمر لو غُرس في قلوب المسلمين لكان فيه النجاة لهم في الدنيا والآخرة.
المنفعة الخامسة من منافع الحج: هي المساواة بين طوائف المسلمين المختلفة. وهذا المعنى في منتهى الروعة "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فالكل سواسية كأسنان المشط، الغني بجوار الفقير، الحاكم بجوار المحكوم، الكبير بجوار الصغير، المصري بجوار الباكستاني بجوار النيجيري بجوار الشيشاني بجوار الفلسطيني... لا قبلية ولا عنصرية.. بل ولا فارق في الهيئة الخارجية، ولا فارق في المناسك.. لا فارق في المكان ولا في الزمان، وهذا المعنى من أهمّ المعاني البنائية لأمة الإسلام.
المنفعة السادسة من منافع الحج: هي التذكير بالحرب الدائمة والمستمرّة مع الشيطان. فعلى الحاج عند رمي الجمرات أن يتذكر هذا المعنى، إن الحرب مع الشيطان قديمة قدم البشر، وباقية ما بقيت الدنيا: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً"، وفي هذا تذكير للمؤمنين بعدوهم القديم، العدو الأكبر الذي يعدّ لهم كل يوم ألفَ عُدّة، ويغفل الكثير من المسلمين عن هذا العدوّ اللدود المتربص، فيأتي الحج ليوقظ النائمين، وينبه الغافلين، ويذّكر الناس أجمعين، وذلك عندما يرى الناس هذه الحشود الهائلة وهي ترجم الشيطان، ونسأل الله عز وجلّ أن ينصرنا عليه في كل الميادين...
المنفعة السابعة: ترسيخ معاني التضحية بكل أنواعها الحج يرسخ في قلوب الحجاج التضحية بالمال؛ فمن ينو الحج يجمع الأموال الكثيرة وربما تكبد في ذلك المشاق والصعوبات ليؤدي فريضة الله عزّ وجلّ، ويربي الحج أيضًا في الناس معنى التضحية بالوقت الطويل، والجهد الكبير.. والتضحية بمتع الحياة المختلفة.. ومعلوم أنه لا أحد يستطيع أن ينصر هذه الأمة إلا إذا تربى على هذا المبدأ العظيم؛ مبدأ التضحية بكل شيء في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، والحج بهذا المعنى مدرسة من أعظم المدارس التي يتعلم فيها المسلم ويمارس مبدأ التضحية ممارسةً عملية...
المنفعة الثامنة: أن يتعلم الناس من خلال الحج خلق التقشف: ففي الحج تدريب عملي على البعد عن ترف الدنيا ونعيمها، من ملبس ومأكل وغير ذلك من الأشياء، ومن ثَمَّ فهؤلاء الذين يسرفون في النفقات وما يسمّى بالحج الفاخر، والمبالغ الباهظة التي تُنفق دون الحاجة إليها.. هؤلاء لم يفقهوا هذا الدرس جيدًا، ولم يدركوا هذه المنفعة العظيمة من منافع الحج، إن الأمة التي تتربى على الترف والميوعة لا يُكتب لها النصر على الإطلاق...
المنفعة التاسعة من منافع الحج: أنه يعلمنا لين الجانب، وهدوء النفس، وترك الجدال. الله عزّ وجل يقول: "فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ"، فلو أن الأمة تربَّت على أن تكظم غيظها، وتصلح ذات بينها، وتتجنب الجدال، فإن هذا - ولا شك - سيؤدي بها إلى نصر الله وتمكينه...
المنفعة العاشرة والأخيرة وليست الآخرة - لأنه من المستحيل على أي إنسان أن يحيط علمًا بحكمة الله عز وجل - هي التجارة ( البيع والشراء). لا بأس في الحج أن يبيع الإنسان ويشتري، يفيد ويستفيد، والله عزّ وجلّ يقول: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ"، وإن كان على الحاج ألا ينفق وقته الثمين الغالي في التجارة؛ ذلك لأن وقت الحاج في منتهى الأهمية، وليس من الحكمة أن تضيع الأوقات الثمينة الغالية في أشياءَ يمكن عملها في أي مكان آخر، وفي أي وقت آخر... كانت هذه هي المنفعة العاشرة.. فتلك عشر كاملة.. نسأل الله أن ينفعنا بها وينفع الأمة جميعًا. ومنافع لغير الحجاج..! نعود مرّة أخرى لما كنا نتحدث فيه بدايةً، وهو أن الله عزّ وجل اختار الحج كركن أساسي من أركان الإسلام، ينبني عليه الإسلام، لأجل هذه المنافع التي ذكرناها، ومنافع أخرى كثيرة يستطيع الإنسان أن يستخرجها كلما تدبّر في معاني وآيات الحج، وكلّما نظر في آيات الله وأحكامه، ذلك لأن الإسلام شرع محكم من لدن حكيم خبير...
ولعلنا الآن وقفنا على الحكمة التي لأجلها اختار الله عزّ وجل الحج ليكون ركنًا من أركان هذا الدين العظيم، لأنه لو تحقق كما ينبغي لأقيمت كل شرائع الإسلام كما ينبغي، وهذا والله خير الدنيا والآخرة.
وإذا كان الحجاج يعيشون كل هذه المعاني، وينقلونها إلى بقية الأمة، فإن الله عزّ وجل أراد لمن لم يُكتب له الحج أن يعيش هذه المعاني التي يعيشها الحاج، وليس هذا عن طريق السماع فحسب، بل شرع الله عزّ وجلّ لنا وسائل تجعلنا نعيش نفس مشاعر الحجاج، وفي نفس الوقت الذي يؤدون فيه مناسكهم...
فقد شرع الله عز وجل لنا أعمال خير وبر وطاعة وعبادة، خاصة في أيام الحج، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول فيه:"مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ" يقصد الأيام العشر الأولى من ذي الحجة "فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟" ويتضح من سؤال الصحابة هذا أن الجهاد عندهم - رضي الله عنهم جميعًا - كان أعلى شيء ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
فهذه الأيام العشر فرصة لكل المؤمنين في الأرض، فرصة لمن لم يُوفقوا للحج؛ ففي نفس الوقت الذي يكون فيه الحاج في مكة يؤدي المناسك، تكون أنت في بلدك بعيدًا عن مكة بمئات أو آلاف الأميال، ومع هذا تحصّل من الأجر الكثير والكثير، لدرجة تعلو فيها على المجاهد إلا أن تبذل النفس بكاملها والمال بكامله في سبيل الله، فهذه أعظم عشرة أيام في العام كله، وهذه الأيام ليست للحجاج فقط، بل إنها لعموم الأمة، حتى يعيش المسلمون مع إخوانهم الحجاج الجوّ الإيماني الذي يعيشونه.
لا بد إذن من استغلال هذه الأيام العشر بصورة جيدة، ولتستشعر أنك في الحج، تؤدي مناسكه، وتتحمل متاعبه ومشقّاته، وينبغي ألا يضيع منك أي وقت مهما كان بسيطًا، ولتجعل كل لحظة من لحظات حياتك مشغولة بحسنات، وينبغي أيضًا أن تحاسب نفسك كلََّ يوم، وتذكرها دائمًا بيوم الحساب... وهذه بعض العبادات التي ينبغي الاهتمام بها جيدًا خلال العشر الأوائل من ذي الحجة:
1 - صوم التسع الأوائل من ذي الحجة: نحاول صوم الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة، وكما نعرف أن اليوم العاشر يحرم صيامه لأنه يوم العيد، وإن فاتك من هذه الأيام شيء فلا يفوتنك صيام يوم عرفة، وصيامه من الأهمية بمكان، فهو يكفر ذنوب سنتين كاملتين؛ سنة ماضية وسنة مستقبلة، كما روى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه"أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ كَفَّارَةَ سَنَتَيْنِ: مَاضِيَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ..."
إن من أعظم درجات الحج أن الله عزّ وجلّ يغفر ذنوب الحجاج جميعًّا، وأكثر ما يعتق من الرقاب يوم عرفة، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ"... فالحاج يكفر الله عزّ وجلّ عنه ذنوبه يوم عرفه، وغير الحجاج من الصائمين الطائعين يكفر الله عزّ وجلّ ذنوبهم وهم في بلادهم على بعد مئات أو آلاف الأميال من مكة، وهذا من نعمة الله عزّ وجل على المسلمين جميعًا، فينبغي ألا نغفل عن صيام هذه الأيام العظيمة المباركة، وخاصة يوم عرفة.
2 - ومن العبادات التي ينبغي علينا أيضًا أن نزيد الاهتمام بها: صلاة الجماعة بالنسبة للرجال في المسجد، والصلاة على أول وقتها بالنسبة للنساء، ومن الواضح أن هذا الأمر يلازم المسلم طوال العام، غير أن الشيطان قد يتغلب على الإنسان أحيانًا فيشغله، ويحرمه من الأجر الكبير الذي يستطيع الحصول عليه بصلاة الجماعة، وبالصلاة على أول وقتها، ومن رحمة الله تعالى بالمؤمنين أن جعل لهم مواسمَ يشتاقون فيها للعبادة، ويرتقون درجاتٍ عالية يصعب عليهم أن يبلغوها في غير هذه الأوقات، مثل شهر رمضان وعشر ذي الحجة...، ليس فقط لتحصيل أكبر قدر من الأجر والثواب، لكن للتدريب والتدرج على الارتقاء لهذا المستوى العالي من العبادة طوال العام ، بل طوال العمر كله.
ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا الشأن، المحافظة على صلاة الفجر، فهي من أهم الصلوات التي يجب أن يحافظ عليها المؤمن الصادق والمؤمنة الصادقة، و هذه الأيام العشر فرصة للتدريب على المحافظة على هذه الفريضة الغالية، التي يتعاظم أجر الحفاظ عليها جدًا، فسنة الفجر خير من الدنيا وما فيها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالنا بصلاة الفرض... ولننظر ولنتدبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ", ولنستشعر هذه المعاني العظيمة التي يحتويها هذا الحديث، ألسنا نحسد الحجاج على وعد الله لهم بالجنة؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ" ، هذا رائع، لكن لديك فرصة وأنت في بلدك، فلا داعي لأن يتعلّل أحد بأنه لا يستطيع أن يذهب إلى الحج ليحصل على هذا الثواب الضخم والأجر الكبير؛ ليحصل على الجنة، فكل ذهاب إلى المسجد.. وكل إياب منه يُعَدُّ لك نزلك في الجنة...
3 - الإكثار من صلاة النافلة: مما لا شك فيه أن لدى الحجاج فرصة كبيرة لتحصيل الأجر العظيم، وذلك بصلاتهم في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي أيضًا، لكن الله تعالى لم يحرمك وأنت في بلدك بل وأنت في بيتك من فرصة تحصيل الكم الهائل من الحسنات وذلك بصلاة النافلة... أنا أريدك أن تشعر في هذه العشر من ذي الحجة وكأنك في الحج، ألا ترى الحاج وهو في مكة لا يضيع لحظة واحدة لأن كل صلاة في الحرم المكّي تُحسب له بمائة ألف صلاة؟؟.. فكذلك أنت ينبغي ألا يضيع منك أي وقت على الإطلاق خاصة في هذه الأيام، وستجد من الحسنات الكثير والكثير... ومن النوافل المهمة التي ينبغي عدم التفريط فيها في هذه العشر نافلة قيام الليل، ولقيام الليل في هذه الليالي المباركة وضع خاص وأجر خاص، وقد أشار كثير من المفسرين أن الله تعالى عندما أقسم قائلا: "والفجر . وليلٍ عشر".. إنما عنى سبحانه وتعالى هذه الليالي العشر من أول ذي الحجة، فإذا جنّ عليك الليل فقف بين يدي الله تعالى واسأله ما تريد من الحاجات، وتدبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم - والحديث في البخاري ومسلم - الذي يقول فيه: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ.. يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟"، ماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟! الله سبحانه وتعالى هو الذي يتودد إليك ويريدك أن تسأله حاجتك، أليس لديك ما تريد أن يقضيه الله لك، ألا تريد من ربك أن يشفي لك مريضًا، أو ييسر لك امتحانًا، أو يرد عنك ظالمًا، أو يرفع عنك بلاءً نزل بك، أو يردَّ إليك حقًا سُلب منك؟!.. ألست تريد شيئًا من ربك، ألا تريد مالًا؟ ألا تريد زوجةً؟ ألا تريد أولادًا؟ ألا تريد صحةً؟؟.. الله عز وجل هو الذي يريد قضاء حاجتك، ما عليك إلا أن تسأل!! ثم.. أليس عندك ذنبٌ تريد من الله أن يغفره لك؟! ومن منا لم يقترف ذنبًا، فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ألسنا نحسد الحجاج لمغفرة الله عز وجل لهم جميع ذنوبهم؟.. إننا في الواقع نمتلك هذه الفرصة كل ليلة، فالله عز وجل يسأل: "مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟؟!" فما عليك إلا أن تستيقظ لتسأل ربك وتستغفره دون أن تدفع المال الكثير، وتتكبد الجهد الكبير في ذهابك للحج، وليس معنى هذا أن يتكاسل الناس عن الحج؛ فالحج عبادة من أعظم العبادات في الإسلام، لكني أقول لعموم المسلمين الذين لم يتيسر لهم فرصة الحج لأي ظرف من الظروف: إن الله عز وجل أعطاكم بدائل للحج وفي نفس وقت الحج، وعليها من الأجر ما قد يصل إلى مثل أجر الحج بل ربما زاد عليه إذا كانت النية خالصة والاشتياق للمغفرة وللعمل الصالح حقيقيًا، وانظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ"!! وسبحان الله.. قوم جلوس بالمدينة ويأخذون مثل أجر المجاهدين، تعجب الصحابة رضي الله عنهم من هذا الأمر فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟!! قَالَ: "وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ.. حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" ، فإذا كنت في شوق حقيقي للمغفرة فلا تَضِع منك هذه الفرصة، وليس قيام الليل فحسب، بل كن حريصًا قدر ما تستطيع على النوافل كلها، ومنها السنن القبلية والبعدية للصلوات، واقرأ هذا الحديث الرائع - وهو عند الدارمي - وترويه أم المؤمنين السيدة أم حبيبة رضي الله عنها فقد سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ الْفَرِيضَةِ إِلَّا بني لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ" قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ مَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ، فهذا بيت في الجنة باثنتي عشرة ركعة فقط، وقد فُسِّرَت هذه الركعات في حديث الترمذي عن عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ" صححه الألباني، فهذه اثنتا عشرة ركعة، فكم يكون لك من البيوت في الجنة إذا لم تفرط في هذه الركعات، وقارن هذا الأمر بما يعيشه الناس اليوم في أزمات شديدة سببها عدم توافر السكن، فلو أن أحد الملوك طلب منك أن تفرّغ له كلَّ يوم نصف ساعة فقط على أن يعطي لك في مقابل ذلك شقة متسعة على النيل - مثلًا -، فهل ستفرّغ له نصف ساعة أم ستتكاسل عن ذلك؟!، ربما أجاب البعض: بل عشر ساعات، وربما أجاب آخرون: أفرّغ له وقتي كله!!... الله عزّ وجل يعطيك كل يوم مقابل أداء هذه النوافل بيتًا ليس على النيل.. بل في الجنة، إن الأمر يحتاج منك إلى يقينٍ في وعد الله عزّ وجل فإذا توفر اليقين فلن يكون هناك أي تفريط في هذا الثواب العظيم والأجر الجزيل. وغير هذه النوافل هناك الكثير الذي يمكن عمله من الخير، لتصبح متعودًا على الحفاظ على النوافل ليس في هذه العشر فحسب بل في حياتك كلها، كن دائم المحافظة على صلاة الضحا، وعلى سنة الوضوء، وعلى صلاة الحاجة، وعلى صلاة الاستخارة، وصلاة التوبة، وأكثر من الصلاة تطوعًا، تعويضًا لما فاتك من الصلاة قبل ذلك، اجعل هذه الأيام هجرة كاملة إلى الله تعالى.
4 - من العبادات التي ينبغي الاهتمام بها في هذه العشر أيضًا: الذكر إن ذكر الله عزّ وجل في هذه الأيام له أجر عظيم، كما أن له مكانة خاصة جدًا، فالله عزّ وجلّ يقول: "وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ" في هذه الأيام، وقال ابن عباس في قول الله تعالى "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ" قال: هي أيام العشر، فالذكر إذن أمر مباشر من الله عز وجل، الذكر بكل أنواعه، في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ"، فهؤلاء يا إخواني هم الذين سبقوا، ولا بأس بأي نوع من أنواع الذكر: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم... ويوجد أنواع من الذكر يستحسن أن يكثر الإنسان منها في هذه الأيام العشر، منها التكبير والتهليل والتحميد، فقد روى الإمام أحمد بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ" ، وللتكبير بالذات قيمةٌ عالية جدًا في هذه الأيام، وعند البخاري: كان ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. ومن الأذكار المهمة للغاية أيضًا في هذه الأيام أيضًا، الاستغفار، فالجوّ في موسم الحج بصفة عامة - سواءً لمن كتب الله تعالى له الحج، أو لهؤلاء المجتهدين في العبادة - جوّ مغفرة ورحمة وتوبة وعودة إلى الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ.. إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ.. وَإِنْ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ"، فهذه فرصة عظيمة أن نستغفر الله عز وجل في هذه الأيام، والاستغفار يا إخواني سهل ميسور، ومن صيغه المشهورة: أستغفر الله، فلو شغلت نفسك بالاستغفار ستحصّل أجرًا كبيرًا، فالمهم إذن هو كثرة الذكر والاستغفار؛ لأن الله عز وجل عندما أمر بالذكر قرنه بالكثره، قال تعالى:واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون" ، وقال عز وجل "والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا"
5 - من العبادات التي ينبغي الاهتمام بها أيضًا: الدعاء وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من قيمة الدعاء كما جاء في سنن أبي داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال "الدعاء هو العبادة"، وإذا كان لدى الحجاج كثير من الفرص لإجابة الدعاء، مثل الدعاء في الطواف، وعند السعي بين الصفا والمروة، وعند رمي الجمرات وبعدها، وعندما يشربون من ماء زمزم، وعندما يقفون بعرفة... فإن الله عز وجل لم يحرم عموم الأمة من فرص إجابة الدعاء في غير مكة، وقد ذكرنا منها قريبًا الدعاء في الثلث الأخير من الليل، انظر كيف تكون قريبًا من الله في هذا الوقت، وتكون أقرب من هذا أيضًا عند السجود، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"، ولا بأس أن تدعوا الله عز وجل في أي وقت، وخاصة هذه الأوقات العظيمة الشريفة التي هي أقرب لإجابة الدعاء من غيرها من الأوقات...
6 - أيضًا من هذه العبادات التي ينبغي ألا نفرّط فيها خاصة في هذه العشر: قراءة القرآن. وقراءة القرآن من النعم العظيمة والكبيرة التي هي أفضل بكثير مما يتمناه كثير من الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"، فينبغي- إذن - أن يختم الإنسان القرآن مرة في التسع الأوائل من ذي الحجة، ربما كان ذلك صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا، فالحاج كما نعرف يفرّغ أسبوعين كاملين أو ثلاثة وربما أكثر لتأدية فريضة الحج، وما نريده هو أن تفرغ ساعتين كل يوم للقرآن الكريم لا أسبوعين، ساعتين فقط في كل يوم من هذه الأيام العظيمة، وستحصل - إن شاء الله - على كمٍّ هائل من الحسنات، وكما نعرف فالحرف بعشر حسنات وربما عشرين أو ثلاثين، فالله عز وجل كريم معطاء جواد ، وهو عز وجل يضاعف لمن يشاء... وإذا نظرنا وجدنا أن عدد حروف القرآن الكريم تصل إلى ما يزيد على (330) ألف حرف!! وبالضرب في عشرة، سيتحصّل لك ما يزيد على ثلاثة ملايين حسنة، أليس هذا أجرًا كبيرًا مقارنة بما يحصّله الحاج والمعتمر؟ غير أن أي مسلم يستطيع أن يحصّل هذا الأجر وهذا الكمّ الهائل من الحسنات وهو في بلده، بل وهو في بيته، نسأل الله عز وجل القبول لنا أجمعين.
7 - الوحدة بين المسلمين: إذا كان الحجاج يذهبون إلى مكة، و يتم التعارف بينهم، وهم من كل أرجاء الدنيا، فإن لديك الفرصة أن تقوّي أواصر المودة والوحدة بين المسلمين في بلدك، إن من أهداف الحج الرئيسية إيجاد الشعور بإحساس الأمة الواحدة بين المسلمين، ومن الصعب أن يوجد هذا الإحساس والمسلمون متفرقون، من الصعب أن يوجد والخلافات مستديمة والشقاق مستمرٌ بين أبناء القطر الواحد فضلًا عن جميع الأقطار، وبين أبناء المدينة الواحدة، بل بين أبناء المسجد الواحد، وأحيانًا بين أبناء البيت الواحد، فلنجعل هذه الأيام فرصة لكي نوجِد الوحدة بين المسلمين قدر ما نستطيع، وهذه
بعض العناصر المهمة التي تزيد من أواصر الوحدة بين المسلمين:
أولًا: برّ الوالدين
فالوالدان مهما كان بينك وبينهما من اختلاف في الرأي أو في وجهات النظر، فإنهما يُقدَّمان على كل شيء، وعلى أي شيء، إلا أن يأمرا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فينبغي إذن في هذه الأيام العظيمة أن تزيد من وسائل البر بالوالدين من زيارة واتصال وقضاء لحوائجهما وإدخال السرور عليهما، قدر ما تستطيع، وأنت إنما كنتَ تريد الحج ليدخلك الله الجنة، وتستطيع أن تدخلها ببرِّكَ لوالديك، وانظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "رَغِمَ أَنْفُ.. ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ.. ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ.." قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ"، وفي رواية "فلم يُدخلاه الجنة" أي الأب والأم.
ثانيًا: صلة الرحم
إذا كنت تبحث عن رضا الله عز وجل، فاسمع إلى كلام الله تعالى للرحم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ.. فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟؟ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَلِكِ لَكِ.. ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"، فأنت بصلتك لرحمك تكون أهلًا لأن يصلك الله عز وجل، فأي منّة هذه، وأي فضل، وأي كرم، وأي جود أن تكون أهلًا أن يصلك الله عز وجل، ولو أنك تريد الرضا من الله تعالى وقاطعك أهلك جميعًا بكل الطرق، ستضحّى بلا شك في سبيل إرضاء ربك وستبذل قصارى جهدك أن تصلهم، وتذكر دائمًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"، هذا هو الواصل فعلًا الذي يصله الله تعالى.
ثالثًا: توثيق العلاقة بالأصحاب والجيران والمعارف
وهي فرصة طيبة في هذه الأيام المباركة، أن تزيد المحبة والألفة بين أفراد المجتمع المسلم، ولتوثيق العلاقات بين المسلمين من الأجر الكثير والكثير، ففي الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا"، فهذا بيت في الجنة يكتبه الله لك لزيارتك لأخيك أو جارك زيارةً خالصة لوجه الله من غير مصلحة دنيوية ومن غير أن تتعاطى أجرًا إلا من الله عزّ وجل.
رابعًا: مما يقوّي أواصر الوحدة بين المسلمين أيضًا إصلاح ذات البين
وهذا الأمر من الأهمية بمكان، لينظر الإنسان في علاقاته، وفي من حوله من معارفه وأقاربه، وجيرانه، ربما تكون هناك مشكلة ما بينك وبين غيرك من الناس، وهذه فرصة عظيمة، احرص على أن لا تمرّ هذه الفرصة إلا وأنت على علاقة طيبة بكل من حولك من الناس، اغفر لمن أساء إليك، وافتح صدرك للناس، وابتسم في وجوههم، إن استمرار الشقاق والخلاف بين المسلمين أمر بالغ الخطورة، ينبغي أن ينتهي سريعًا، وتذكر أن الله عز وجل يغفر الذنوب للمتصالحين ويؤجل المغفرة لمن بينهم شقاق، في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا". فينبغي علينا في هذه الأيام المباركة خاصة أن نعمق أواصر الوحدة والألفة والمحبة بين المسلمين وذلك ببرّ الوالدين،
وصلة الأرحام، والتزاور في الله، وإصلاح ذات البين.
8 - ومما ينبغي فعله أيضًا من الطاعات في هذه العشر الإكثار من الصدقات الله عز وجل يقول: "وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" ففي هذه الأيام السعيدة، علينا أن نُدخل السرور والبهجة والفرح على الفقراء والمحتاجين من المسلمين، ولا شك أن الإكثار من النفقة يؤدي هذا الهدف العظيم، كما أن الأجر مضاعف في هذه الأيام أكثر من غيرها. وإذا كان الحاج ينفق مبالغَ كبيرة ليؤدي هذه الفريضة العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن الإنفاق في الحج كما في مسند الإمام أحمد: "النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ" ، فإن لديك فرصة عظيمة في التنافس مع الحاج في مجال الإنفاق، ولا بأس أن تنفق ما تستطيع، الدرهم في سبيل الله بسبعمائة، والألف بسبعمائة ألف، "واتقوا النار ولو بشق تمرة"
9 - أن نعيش حياة التقشف: تعالوا بنا في هذه الأيام نعيش حياة التقشف، نعيش حياة الحجاج السهلة البسيطة، من دون أدنى تكلفة، ليس مهمًا ماذا آكل، أو ماذا أشرب، أو ماذا ألبس، المهم أن نكتسب في كل لحظة من لحظات حياتنا الحسنات الكثيرة، والأجر الجزيل من الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك يريدنا أن نعيش الجوّ الذي يعيشه الحاج، ففي صحيح مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا" وفي رواية أخرى لمسلمٍ أيضًا "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ"، تمامًا مثل المحرم حتى في هيئته، لا يحلق شعرًا، ولا يقلّم ظفرًا، ولا يضع طيبًا، هكذا طوال هذه الفترة إلى أن يضحي، يتأكد لنا - وسبحان الله - أن الحج ليس للحجاج فقط، كانت هذه هي النقطة التاسعة من النقاط التي ينبغي الاهتمام بها في هذه الأيام المباركة.
10 -ذبح الأضحية وذبح الأضحية من أعظم القربات إلى الله عز وجل، ويجعلك تعيش مشاعر الحج والهدي، وأذكر لكم حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل الأضحية. الحديث الأول: رواه ابن ماجة بسنده عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا" ، وقف مع نفسك في هذا الحديث وقفةً لترى مدى الخير العظيم والثواب الجزيل، والحسنات الكثيرة التي تُسجل لك في يوم العيد... الحديث الثاني: رواه ابن ماجة أيضًا بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِي قَالَ "سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ" قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ "بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ"، وتدبر هذا الحديث جيدًا لتعرف مدى الأجر العظيم الذي يعود عليك من ذبحك للأضحية يوم العيد، هذا إذا كنت قادرًا على التضحية... فتلك عشرة كاملة حاول من خلال جدول منسق أن تطبقها جميعًا، ولا تقلّ عن الدرجة النهائية فهي عشرة في عشرة، وحاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا.
وهذه هي العشر واجبات مجتمعة وموجزة: 1 - صوم التسعة أيام الأولى من ذي الحجة وخاصة يوم عرفة. 2 - صلاة الجماعة في المسجد للرجال وخاصة صلاة الفجر، وعلى أول وقتها للنساء. 3 - الإكثار من صلاة النافلة قدر المستطاع؛ قيام الليل، السنن القبلية والبعدية، صلاة الضحى... 4 - الذكر بأنواعه كلها، وخاصة التكبير والتهليل والتحميد ولاستغفار. 5 - الدعاء بخير الدنيا والآخرة. 6 - قراءة القرآن ومحاولة ختمه في التسع الأوائل من ذي الحجة. 7 - تعميق أواصر الوحدة والألفة والمحبة بين المسلمين وذلك ببرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والتزاور في الله، وإصلاح ذات البين. 8 - التصدق والإنفاق في سبيل الله، على الفقراء والمساكين، ولا تنس إخوانك في فلسطين والعراق... 9 - التقشف، وعدم الأخذ من الشعر أو الأظافر إن كنت ستضحي يوم العيد. 10 - الذبح حال الاستطاعة، ولك بكل شعرة من الأضحية حسنة.
وأعتقد بهذا أنك تستطيع أن تجد بديلًا لأعمال الخير التي يمارسها الحجاج إن لم يكتب الله لك حجًا، وهذه الأمور - يا إخواني - لم أقترحها، وإنما علمنا إياها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك ليثبت لنا أن الحج ليس للحجاج فقط، بل ينعكس أثره على الأمة الإسلامية بكاملها...
وكلمة أخيرة إلى المخلصين من أبناء هذه الأمة والذين لم يكتب لهم حج بعد، لا تحزن فقد جعل الله عز وجل لك عوضًا من ذلك، لا تحزن إن لم تكن مستطيعًا، فالله عز وجل لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لا تحزن فقد يكتب الله عز وجل لك أجر الحجاج وأكثر بنيتك الصادقة، وشوقك الحقيقي، ولهفتك غير المصطنعة، وإلى أن يكتب الله عز وجل لك حجًا، لا تضيع وقتًا، فقد فتح الله عز وجل لك أبواب الخير على مصاريعها، من صيام وصلاة وذكر ودعاء وقرآن وصدقة... أعمال الخير لا تنتهي، وأبواب الجنة لا تغلق في وجه طالبيها أبدًا... وبعد.. ليُقِم كلٌّ منا جبلًا لعرفات في قلبه، ويدعو الله عز وجل بما شاء وقت ما شاء، ليرجمَ كلٌّ منا الشيطان في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياته، ليتخفف كلٌّ منا من دنياه، فما بقي من الدنيا أقل بكثير مما ذهب، ليصلح كلٌّ منا ذات بينه، وليغفر لإخوانه، وليحب الخير لكلِّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها... نسأل الله عز وجل حجًا مبرورًا لكل من كُتب له الحج، وعملًا صالحًا موفقًا متقبلًا لمن لم يوفق للحج، ونسأله سبحانه وتعالى العزة والتمكين والرفعة لهذا الدين كما نسأله الجنة لنا ولكم ولسائر المسلمين...آمين.. آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
"فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"

الحج والعلاقات الأسرية

الحج والعلاقات الأسرية اعتنى الإسلام في كل عباداته وشعائره بالأسرة المسلمة كنواة للمجتمع المسلم الذي سيقوم بدوره بعد ذلك في نشر الإسلام والدعوة إليه . وبداية وقبل الكلام عن الحج أقول أن الأسرة في الإسلام قاعدة وأساس عليها يبني المجتمع كله وبافتقادها ينحل عقد المجتمع بل البشرية بأسرها لأنها النواة الأولي وبحسب نشأتها والاهتمام بها تكون صورة المجتمع من حيث الصلاح والفساد .
يقول الشهيد سيد قطب حول قول الله عز وجل : اللّهَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) الحياة البشرية هي الأسرة ، فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في (إِنَّ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)1النساء
(كذلك توحي الآية بأن قاعدة الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفساً واحدة ، وخلق منها زوجها . فكانت أسرة من زوجين . { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } . . ولو شاء الله لخلق - في أول النشأة - رجالاً كثيراً ونساء ، وزوجهم ، فكانوا أسراً شتى من أول الطريق . لا رحم بينها من مبدأ الأمر . ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد . وهي الوشيجة الأولى . ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها ، أن يضاعف الوشائج . فيبدأ بها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم ، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى -هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالاً كثيراً ونساء ، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية ، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة . التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني . بعد قيامه على أساس العقيدة .
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي ، وهذه العناية بتوثيق عراها ، وتثبيت بنيانها ، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء - وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة ، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى .)الظلال ج1 /574. ومن هنا نجد عناية الإسلام بالأسرة في القران والسنة وسيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم فيقول الله عز وجل: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} ا
ويقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :(كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)
ولا يستطيع عاقل أن ينكر التشريعات التي وضعها القران للأسرة في كثير من الآيات بل أفرد لها مواضع بطولها بل أقول سور بطولها في البقرة والنساء والنور والأحزاب والتحريم والطلاق وغيرها . وأيضا ما وضعته السنة المطهرة من تشريعات وتنظيمات في الآداب والواجبات والحقوق لكل فرد من أفراد الأسرة يكفي أن يقيس رسول الله صلي الله عليه وسلم الخيرية للفرد بميزان الأهل (خيركم خيركم لأهله ) وبقراءة التاريخ والنصوص في شعائر ومشاعر الحج نجد صورة مثلي للأسرة المسلمة بكل أفرادها
ففي هذه القراءة نجد
1- الزوجة المسلمة التي تحفظ زوجها وترضي بقضاء ربها وتؤدي في سبيل الإسلام دورها والمدركة وظيفتها في الحياة . 2- ونجد أيضا الزوج الصالح الفاهم لدينه القائم علي تربية بيته والمشغول بأهله والمؤدي ما عليه من دور في الحياة بغير أن يشغله الأهل والولد عن خالقه ومولاه. 3- ونري الولد الصالح البار بوالديه المتعاون معهما المطيع لأوامرهما في حدود طاعة الله ولو كلفته هذه الطاعة روحه ونفسه . 4- بالجملة نجد صورة وضيئة لحياة مثلي داخل أسرة مسلمة نري ذلك واقعا عمليا وأوامر تتلي . بداية يحدد الإمام الشهيد حسن البنا أركان الأسرة في ثلاث ( التعارف – التفاهم – التكافل والتضامن ) وان كان يقصد الأسرة التربوية في داخل الإخوان إلا أنها أيضا أركان لأسرة النسب بل من باب الأولي . فلنقرأ الآن هذه الأركان في رحلة الحج :
أركان الأسرة المسلمة من خلال رحلة الحج 1-التعارف : وان كان المقصود بالتعارف أن يكون كل أفراد الأسرة معروفون لبعضهم ليس فيهم مجهول النسب ولا الدعي ولا اللقيط ولا من ليس منهم إلا أنا نلحظ معني آخر وهو ما يمكن أن نسميه بالمكاشفة أن يكون كل فرد في الأسرة صفحة مفتوحة وكتابا مقروءا.للآخرين.
فلقد كان أول التقاء لأول أسرة في الأرض في مشعر من مشاعر الحج (عرفات) حيث التقاء أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام وهناك تعارفا ولذا سمي بعرفة . 2- التفاهم : ومقصود التفاهم تناغم الأفكار والأهداف والتقاء الأرواح علي مقصد واحد وهذا من ضمانات النجاح والسعادة أن تكون الأسرة كلها أصحاب هدف واحد تتكاتف كل الأيدي وتتضافر كل الجهود للوصول إليه وتحققه سواء في هذا الرجل والمرأة والأولاد .ومعلوم أن الهدف والغاية التي تسعي الأسرة المسلمة إليه هو مرضاة الله عز وجل .وهذا واضح في الدور العظيم الذي فعلته أمنا هاجر وولدها إسماعيل عليهما السلام عند البيت ومدي رعاية الأم لولدها مع يقينها في ربها انه لن يضيعها وذلك لما ذهب بهما سيدنا إبراهيم إلي هذا المكان القفر حيث لازرع ولا ماء ويتركهما هناك والأمر صعب علي نفس المرأة حيث أن أول ما يشغل ذهن المرأة أصلا هو قضية الرزق والمستقبل غالبا وهذا لضعفها الذي خلقت عليه ؛فكيف تترك بلا مأوي في هذا المكان ويزداد الأمر صعوبة بوجود الرضيع معها وهذه قضية تنهار بسببها بيوت كثيرة وهي قضية إعسار الزوج وقصر ذات اليد فما بالك أن ادني الحقوق هاهنا منعدمة وغير مستساغ في عرف جميع البشر .وهذا يعطينا درسا عظيما وهو أن حاجات النفس تنسي أو يتغلب عليها شريطة أن يكون هناك توافق نفسي بين الزوجين فمن الممكن أن تعيش الزوجة مع زوجها علي الكفاف إذا كان هناك نفاهم بينهما ولن يتحقق التفاهم في أي أسرة إلا إذا كان الزوج والزوجة طريقهما واحد وهدفهما واحد –إرضاء الله عز وجل – فإذا قامت الأسرة علي الطاعة والعبادة واليقين والرضا بما قسم الله تحول الصعب إلي سهل والحزن إلي فرح بل المستحيل في عرف الناس ممكنا .
فهاجر تسجلها لكل زوجة مسلمة من بعدها (آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم، قالت:إذا لن يضيعنا ). فالأسرة السعيدة هي التي تعيش في كنف اليقين والرضا والإيمان والمال لايسعد أسرة ولا يضمن لها التوافق والتفاهم إذا افتقد الإيمان والهدف والوظيفة . وعلي الجانب الآخر فالزوج مهتم بأمر أسرته ومشغول بشأنهم ويتجسد هذا في دعائه وابتهاله : (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37ابراهيم ولكن هذا الانشغال بحالهم ومستقبلهم ،الواضح في طلبه من الله لهم أن يرزقهم من الثمرات لا يجعله ينشغل عن علاقته بالله عز وجل ووظيفته الأصل ، بل الزوج الصالح يجعل من أسرته عونا له علي وظيفته ودعوته وهدفه في الحياة فيحاول أن يربطهم بالله عز وجل . لاحظ في دعاء سيدنا إبراهيم (ربنا ليقيموا الصلاة ) ولاحظ قوله ( لعلهم يشكرون ) وبهذا يضمن الله له النجاح والقبول . والأسرة المتفاهمة التي تتجه بكل أفرادها إلي مرضاة الله حقيقة بأن يخلد الله ذكرها ويجعلها أسوة لغيرها . 3- التكافل والتضامن : ونعني به التعاون الكامل بين كل أفراد الأسرة كل حسب إمكاناته وقدراته فالزوجة عليها واجبات ولها حقوق وكذلك الزوج والابن، ويتضافر هذا الجهد كله ليصب في النهاية في بوتقة العمل للإسلام . وهذا ما أشار إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبة الوداع بقوله ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) فهذا الجزء من خطبة رسول الله صلي الله عليه وسلم يشير إلي مجمل الحقوق والواجبات والي المقياس الذي تقاس به علاقة الإفراد في داخل الأسرة من حيث السمع والطاعة وأن الضابط في هذا هو موافقة أمر الله عز وجل أو عدم موافقته ( فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ولكن إذا أمر الله بأمر فحال الجميع سمعنا وأطعنا ولو كان علي خلاف الهوى ، تماما كما حدث مع هذه الأسرة المباركة أسرة سيدنا إبراهيم التي تصاحبنا في كل مشاعر الحج – عندما أمر الله سيدنا إبراهيم أن يذبح سيدنا إسماعيل ، فما كان من الزوج إلا أن استجاب لأمر الله وما كان من الولد إلا البر والطاعة ولو كان الثمن الحياة وما كان من الزوجة إلا الرضا بأمر الله وان كان الأمر علي خلاف كل تصورات البشر ولما حاول الشيطان أن يتسرب لهذه الأسرة المباركة فلم يجدوا له أمام أمر الله جزاء إلا الرجم وتكون شعيرة للمسلمين من بعدهم لتخلد لنا صورة عائلة مسلمة أمام أمر الله كيف تكون ؟ وكل الحقوق والواجبات بعد ذلك راجعة لهذا الأصل العام ،وتفصيلها يطلب في مظانه من كتب الفقه .

الحــــج والـوحـــــدة الإســـــلامـيــــــــة

الحج والوحدة الإسلامية الوحدة الإسلامية جانب من جوانب الحج. فالمسلمون من كل أنحاء العالم يجتمعون في مكان واحد ويؤدون معا مناسك الحج. فالحج هو الاجتماع الديني العالمي للمسلمين.
ولنتدبر معا الآيات القرآنية التالية: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }البقرة125
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }آل عمران96
{جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }المائدة97
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }إبراهيم37
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }الحج27
المركز العالمي للتوحيد نعرف من خلال هذه الآيات أن الهدف الإلهي وراء بناء إبراهيم للكعبة كان إعداد مركز لأهل التوحيد يؤمه الناس من قريب وبعيد. وهيـّأ الله أسبابا تاريخية حول الكعبة لتنجذب إليها قلوب الناس فيقصدوها جماعات وأفواجا.. فبيت الله هو المركز الإسلامي العالمي إلى يوم القيامة، وهو مقر الاجتماع العالمي السنوي لكل مسلمي العالم، ولذا تقول الروايات إن الله تعالى أمر إبراهيم بأن ينادي في الناس بأن يأتوا هذا البيت زائرين فقال : يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا يصل إليهم فقال : ناد وعلينا البلاغ . فقام على الحجر وقال : يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجـّوا إليه. فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك . وهذا لا يعني أن كل الناس على كل وجه الأرض ممن كانوا موجودين في ذلك الوقت وممن ولدوا في المستقبل سمعوا صوت إبراهيم في نفس ذلك الوقت، بل كان صوت إبراهيم نداء رمزيا.
لقد سمع الناس كلهم هذا الصوت بدون شك ولكنه كان سمعا بصورة رمزية وليس بصورة فعلية.. فقد كان النداء الإبراهيمي بدءا لواقعة مستمرة لا تنقطع. فأطلق إبراهيم نداءه في عصره، وأخذه الآخرون من بعده فأسمعوه لمن في عصرهم، وهكذا استمر هذا العمل جيلا بعد جيل، وعندما جاء عصر الصحافة والإذاعة انتشر هذا الصوت على مدى أكبر، فجاوز الجبال والبحار حتى تلاشى الخوف من أن يوجد على وجه البسيطة من لم يصله هذا النداء الإبراهيمي .
إعلان عام والحج هو المقام الطبيعى لإعلان القضايا الاجتماعية، ولذلك أعلنت أهم أمور الإسلام في مناسبات الحج، ومن أمثلته إعلان البراءة من الكفار والمشركين والذي تم بعد نزول سورة التوبة. وكانت مكة قد فتحت في رمضان سنة 8 هـ. ووقعت ثلاث حجات بعد ذلك فى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يقم رسول الله بالحج خلال السنتين الأوليين، بل أدى في السنة العاشرة حجته المعروفة عموما بحجة الوداع ثم توفي إلى رحمة الله. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عين أبا بكر الصديق أميرا على الحجاج سنة 9 هـ. فتوجه أبو بكر إلى مكة مع مجموعة من الصحابة، وبعد خروجه من المدينة نزل الجزء الأول من سورة التوبة الذي أمر الله فيه بأن يعلن الرسول براءة الله ورسوله من المشركين، وأعطي له مهلة أربعة أشهر لوضع هذا الإعلان موضع التنفيذ. وقد ورد في الروايات بهذه المناسبة :
لما نزلت براءة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثتَ إلى أبي بكر ؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، ثم دعا عليا فقال : اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.. ويقول على كرم الله وجهه : إنه طاف بمكة معلنا إعلان البراءة بين الجموع إلى أن صحل صوته .
لقد نزل حكم البراءة من مشركي الجزيرة العربية وكفارها في المدينة إلا أنه أعلق بمكة خلال موسم الحج. وهذا دليل واضح على أن موسم الحج بمكة هو المكان الصحيح لإعلان كل القرارات الإسلامية الهامة. فالحج هو المركز الاجتماعي لكل مسلمي العالم، وهم يجتمعون هنا وعليهم أن يعلنوا هنا قراراتهم الكبرى وعليهم أن يضعوا هنا الخطط العالمية للأعمال التي تجب عليهم تنفيذا لأوامر الله ورسوله. والمثال الواضح الثاني لهذا هو خطبة حجة الوداع، التي هي أهم خطبة فى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن خلالها أراد أن يعرِّف الناس بمقتضيات الدين الأساسية بصورة نهائية قبيل وفاته، ولم يعلنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أي مكان آخر بل أخـّرها إلى أن حان الحج سنة 10 هـ. ولذلك قال في مستهل الخطبة: أيها الناس، اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ثم أخبر رسول الله الناسَ بكلِّ أمور الدين الأساسية ثم سألهم في نهاية الخطبة : ألا هل بلـّغتُ ، ألا هل بـّلغتُ . فشهد الناس بنعم ، قد بلـّغتَ . وكانت الجزيرة العربية قد دانت له بعد فتح مكة سنة 8 هـ. وكان بإمكان رسول الله أن يتوجه إلى أي مكان آخر غير مكة ليذيع هذا الإعلان. وكانت المدينة مركز الإسلام السياسي حينئذ. وكان بإمكان رسول الله أن يستقدم الناس إلى المدينة ليقوم بهذا الإعلان أمامهم ولكنه لم يسلك هذه الطرق بل انتظر الحج، فأعلنها بعد وصوله إلى مكة.. وهكذا تبيـِّن سنة رسول الله أن الحج هو المكان الأنسب لإعلان كل الأمور والقرارات الهامة في الإسلام.
أسلوب فطري ويعود السبب في هذا الاختيار إلى أن الإسلام يفضل الأسلوب البسيط والطبيعي لكل الأمور. وعلى سبيل المثال: فإن من أعمال الحج السعي بين الصفا والمروة. وهنا ثار سؤال الترتيب ، أي هل يبدأ السعي من الصفا أو من المروة ؟. وحين قام رسول الله بالسعي قال: أبدأ بما بدأ الله به وكان يشير بذلك إلى الآية القرآنية التالية إن الصفا والمروة من شعائر الله وهي الآية التي تأمر الحاج بالسعي بين الصفا والمروة وهي تقدِّم الصفا على المروة. فجعل رسول الله ترتيب العمل على غرار الترتيب القرآني البياني لكي لا يضطر الإنسان إلى حفظ ترتيبين: أحدهما في القرآن وآخرهما في مناسك الحج. وقد جعل الحج مكان الإعلان مراعاةً لهذه الحكمة الطبيعية. فيجتمع المسلمون من كل أنحاء العالم لأداء شعائر الحج كل سنة وسيظلون يجتمعون ما بقيت للدنيا قائمة، ولذلك جعل الحج مكان الإعلان الاجتماعي لكي يكفي اجتماع واحد لتحقيق هدفين في آن واحد. ومن فوائد الإعلان الاجتماعي عند الحج أن مثل هذا الإعلان يكتسب نوعا من القدسية.. فإن الحج هو أقدس مكان في نظر المسلمين والإعلان الذي يتم عند الحج يكتسب نوعا من القدسية والاحترام في أنظار الناس . اجتماعية الحج
الحج أهم عبادة إسلامية تؤدى كل سنة، وهو يقع في الشهر الأخير من التقويم القمري والمعروف بذي الحجة. وتؤدى شعائر الحج في بيت الله بمكة وبعض الأمكنة المحيطة بها. وتعتبر هذه العبادة جامعة لكل العبادات الأخرى لأنها تحتوي على عدد من الجوانب العبادية. ومنها الجانب الاجتماعي ، فهذا الجانب بارز بروزا كبيرا في عبادة الحج. وقد قالت دائرة المعارف البريطانية : يؤدي الحجَّ كل سنة مليونان من الأفراد، وتؤدي هذه العبادة دور قوة توحيدية في الإسلام بأنها تجلب أتباعا له من مختلف الجنسيات ليجتمعوا معا في احتفال ديني وقد ورد في القرآن في معرض الأمر بالحج: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا والمثابة مرادفة لكلمة المركز بمعناها الحديث، أي المكان الذي يجتمع فيه الناس ويكون مرجعا يرجعون إليه وجامعا يجمعهم ويصونهم من التشتت. ويأتي الناس لعبادة الحج من كل أنحاء العالم ومن كل الأجناس، ويبلغ عددهم كل سنة نحو مليونين ونصف مليون، حتى إنك لترى وجوه البشر في كل مكان بمكة وضواحيها أيام الحج، وهم يتحدثون بلغات مختلفة، وأشكالهم ووجوههم تختلف كذلك، ولكن يتحد تفكيرهم بعد المجيء هنا، فالكل يسير نحو هدف مشترك، حتى إنه ليبدو أن هناك مغناطيسا ربانيا يجذب كل هؤلاء إلى نقطة واحدة مشتركة. وحين يقترب هؤلاء الناس من مقام الحج يتخلون عن ملابسهم المحلية ويرتدون لباس الإحرام المشترك الذي يتكون من ردائين أبيضين، يتزر الحاج أحدهما ويضع الآخر فوق كتفه وظهره. وهكذا ترى مئات الألوف من البشر في وضع واحد ولباس واحد. ويجتمع هؤلاء الناس في جبل عرفات الفسيح في آخر الأمر بعد أداء مختلف شعائر الحج.. وما أغربه من منظر.. إنه ليبدو أن كل الفروق بين البشر امّحت فجأة، وتلاشى البشر في وحدة الله ناسين كل خلافاتهم. لقد اتحد الناس هنا كوحدة إلههم. ولو نظرت إلى الحجاج من أعلى جبل وهم مجتمعون في ميدان عرفات الكبير بملابس الإحرام فسترى أن الإنسان قد اتحد على اختلاف لغاته وألوانه ومراتبه وجنسياته، وترى الشعوب والقوميات تنصهر في قومية واحدة جامعة.. والحقيقة هي أن الحج أكبر مظاهرة اجتماعية من نوعها ولا تجد لها مثالا في أي مكان آخر من العالم. والكعبة قبلة المسلمين.. يتجه إليها المسلمون كل يوم خمس مرات في صلواتهم. فالقبلة العبادية لكل المسلمين واحدة. وتكون هذه القبلة حقيقة تصورية في الأحوال العادية. ولكنها تصبح حقيقة مرئية عندما تصل إلى مكة في أيام الحج.. وعندما يأتيها المسلمون من كل أنحاء العالم ويصلون متجهين إليها من كل ناحية فترى بصورة محسوسة أن قبلة مسلمي العالم جميعا قبلة واحدة مشتركة بالفعل. والكعبة بناء عالٍ مكعـّب - ، ويمشى الناس حوله في دائرة. ويطلق على هذا الطواف وهم يصطفون ويصلون حولها في دائرة وتكون الكعبة مركز كل اتجاهاتهم خلال الحج. فالحج عبادة تعطينا دروسَ الاجتماعية المركزية بمختلف شعائره ومناسكها. تاريخ الحج يرتبط تاريخ الحج بحياة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وليس المسلمون وحدهم هم الذين يؤمنون بهما بل يعتبرهما أتباع الأديان الكبرى الأخرى أيضا من أجل الرسل. وهكذا يتمتع عمل الحج بقدسية وعظمة تاريخية لا يتمتع بها عمل ديني آخر في العالم. وكان إبراهيم عليه السلام قد ولد في العراق القديم، وإسماعيل ابنه. وكان العراق بلدا متحضرا في ذلك العصر، وكان آذر- والد إبراهيم وجد إسماعيل- من كبار المسئولين في الحكومة العراقية آنذاك، وكانت فرص الرقي مفتوحة أمام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في العراق إلا أنهما لم يحتملا نظام العراق القائم على الشرك، فهجرا ذلك البلد الخصيب الذي كان مركز الشرك لكي يعبدا الله الواحد الأحد وتوجها إلى الصحراء العربية الجدباء التي لم يكن شيء فيها يحول بين الخالق ومخلوقه.. وهنالك قاما ببناء بيت الله. ويمكن أن نعبر عن عمل إبراهيم وإسماعيل بكلمة أخرى فنقول: إنهما جعلا الله الواحد مرجعهم الأوحد، بدلا من التوجه إلى آلهة المشركين، وقاما ببناء بيت الله الكعبة ليكون مركزا عالميا لعبادة الله الواحد الأحد. وهذا المركز هو مكان أداء مناسك الحج أيضا. ولننظر الآن في بعض جوانب هذه المناسك. فالكلمة التي يرددها الحاج أكثر من غيرها خلال الحج هي الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، والله أكبر ولله الحمد . إن جعل الحاج يردد هذه الكلمات مرة بعد أخرى يهدف إلى توليد نفسية معينة فيه ليعي أن العظمة لله وحده. ويجب على كل جوانب العظمة الأخرى أن تنحنى أمام هذه العظمة الكبرى وأن تتبعها. وهذا الشعور هو أكبر الأسرار الاجتماعية، فلا تقوم الحياة الاجتماعية والوحدة حيث يظن الكل أنه عظيم، ولا توجد غير الوحدة والاجتماعية حيث يتنازل الناس عن عظمتهم الفردية لأجل واحد منهم.. فالفرقة علم على التصارع على العظمة، والوحدة هي وحدة العظمة. والطواف من أهم أركان الحج وكل الذين يجتمعون بمكة في موسم الحج يبدءون بطواف الكعبة، وهو إقرار عملي بأن الإنسان سيجعل نقطة واحدة محور كل جهوده، وأنه سيتحرك في دائرة واحدة.. وهذه هي المركزية التي نشاهدها على المستوى المادي في النظام الشمسي فكل سيارات النظام الشمسي تطوف حول مركز واحد هو الشمس.. وهكذا يعلمنا الحج أن نجعل عبادة الله الحقة الشاملة مركز كل حياتنا فندور حولها وفى دائرتها، ولا نخرج عنها ولا عليها. ثم يسعى الحاج بين الصفا والمروة، فينطلق من جانب الصفا ثم يعود إليه. وهو يفعل هذا سبع مرات. وهذا يعلمنا بصورة عملية أن يكون مسعانا في حياتنا العملية داخل حدود معينة، فلو لم تكن لنا حدود أو ظللنا نتجاوزها فسينفلت بعضنا إلى جانب بينما سيضيع البعض الآخر منا في جانب آخر. ولكن عندما نضع حدودا معينة لمسعانا فنحن سنعود دوما إلى حيث إخواننا الآخرون. وهكذا تدور مناسك الحج الأخرى.. فهي تعلمنا بأسلوب أو بآخر أن نتحد وأن نعمل معا. فهذه المناسك مظاهرة عملية للعمل المتناغم. مركز الوحدة
والحج في حقيقته مسيرة - نحو الله. فعامة البشر سيمثلون أمام ربهم بعد الموت، ولكن المؤمن يمثل بين يدي ربه قبل أن يأتيه الموت.. فحضور الآخرين أمام الله حضور المجبور الذي لا حيلة له. أما حضور المؤمن فباختياره. وهذا هو المنظر الذي يقدمه اجتماع الحجاج من كل أنحاء العالم في ميدان عرفات، ولعله لهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الحج عرفة إلا أن الحج عبادة جامعة أودع الله فيها فوائد أخرى كثيرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومن هذه الفوائد أنه وسيلة للوحدة الإسلامية العالمية. فالكعبة هي النقطة المركزية التي تنتظم حولها دائرة المؤمنين العبادية حول العالم. والجانب الحقيقي لحضور عرفات يتعلق بالآخرة، إلا أن السر العميق لوحدة أهل الإسلام كامن فيه في الوقت نفسه، وذلك لأن الوحدة هي التجمع حول مركز واحد. وحين يتجمع المسلمون حول ربهم خلال الحج فهم يكتشفون كذلك سر تحويل كثرتهم العددية إلى وحدة. إنهم يكتشفون أسرار دنياهم بينما هم يتلقون أسرار أخراهم. توجد الكعبة، بيت الله، ذلك البناء المعروف الذي يتوسط المسجد الحرام الفسيح. ونرى في الصورة مئات الألوف من البشر يركعون أمام ربهم في دائرة.. هذه هي الصلاة الاجتماعية السنوية التي تؤدى خلال الحج ويشترك فيها نحو مليونين ونصف مليون مسلم من كل أنحاء العالم. إنه حدث مشهود ويمكن التقاط الصورة له. ولكن الذين يتخذون من الكعبة قبلة ليسوا هم كل من نراهم في المسجد الحرام. فهناك عدد هائل من المسلمين خارج الحرم في كل مكان على وجه الأرض. فالمسلمون في كل أنحاء العالم يتجهون خمس مرات كل يوم نحو الكعبة لأداء صلواتهم. وتظل هذه الدائرة - التي نشاهدها داخل المسجد الحرام - تتسع حتى تشمل الكرة الأرضية كلها. ولو تخيلت فسترى أن الذي يحدث بصورة محدودة في صحن المسجد الحرام يحدث كل يوم على مستوى أعظم وأكبر في كل أنحاء العالم. فالمسلمون في كل مكان، ومن كل ناحية، يتجهون صوب الكعبة خمس مرات كل يوم لأداء الصلوات. وهم يقفون في كل أنحاء العالم حول الكعبة من جوانبها الأربعة.. أي أن المسلمين يقيمون حولها دائرة كاملة على وجه الأرض خمس مرات كل يوم، فتكون الكعبة في الوسط بينما المسلمون يؤدون صلواتهم حولها في دائرة من كل ناحية على وجه البسيطة.. وهذه ناحية اجتماعية عظيمة لا مثيل لها في أية جماعة دينية أو غير دينية في العالم. وهذا هو النظام العظيم الذي قام بواسطة آلاف السنين من التاريخ. ولو كان في المسلمين شعور حقيقي فأخذوا من الحج الدرس الذي يهدف إليه هذا النظام العظيم لوقعت النهضة الحقة في حياة المسلمين ولانضم كل فرد منهم إلى هذه الهيئة العالمية الاجتماعية المقدسة.. والحقيقة هي أن الكعبة رمز توحيد الله على وجه الأرض وهي في الوقت نفسه رمز وحدة المسلمين واجتماعيتهم. ومن الجوانب الظاهرة لهذا النظام العظيم الذي يربي على الوحدة أنه يطلب من الكل أن يتخلوا عن ملابسهم الخاصة وأن يرتدوا لباسا واحدا بسيطا. فيزول هنا الفرق بين الملك والرعية، وتختفي هنا امتيازات الملابس الغربية والشرقية، ويبدو الناس في لباس الإحرام المشترك وكأن لكل منهم وضعا واحدا.. فالكل عباد الله ولا وضع لهم سوى وضع العبودية لله. تنتهي مناسك الحج المقررة في مكة إلا أن معظم الحجاج يتوجهون إلى المدينة بعد الفراغ من الحج أو حتى قبله لو كان لديهم متسع من الوقت.. وكانت المدينة تسمى (يثرب) في - قديم الزمان، وجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مركز دعوته في آخر حياته، فأصبحت تدعى بـ " مدينة النبي " منذئذ و (المدينة) اختصار لتلك التسمية . ويوجد في المدينة المسجد الذي بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وتنتشر حوله آثار حياته القرآنية . وذهاب الحجاج إلى المدينة - مع أنه ليس شرطا في الحج - درس لهم للمزيد من الوحدة والاجتماعية. فهم يدركون في المسجد النبوي أن زعيمهم واحد وهم يعودون بإحساس بأنه مهما كانت الفروق الجغرافية والقومية بينهم، إلا أنه يجب عليهم أن يسلكوا طريق النبي الواحد. وعليهم أن يجعلوا هذا الوجود المقدس وحده زعيما وقائدا لحياتهم. ومهما بلغ عددهم ومهما تمايزوا عن بعضهم البعض إلا أن إلههم واحد ورسولهم واحد كذلك. .

من دروس الحج

من دروس الحج التسامح والتراحم إن التسامح خلق اسلامي رفيع أمر الاسلام به وحث عليه وهو يدل على السهولة والتيسير ورفع الحر وكل هذا مقصد من مقاصد الاسلام في التشريع قال تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }الحج78
وقال صلى الله عليه وسلم ( بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)
وقال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }البقرة185
وفي المسند ". و عن أبي قتادة عن أعرابي سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ". و عن محجن بن الأذرع أنه كان آخذا بيد النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد قال: ثم أتى حجرة امرأة من نسائه فنفض يده من يدي قال " إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ) وفي البخاري ((حدثني أبو عروة قال كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه يا رسول الله أعلينا حرج في كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أيها الناس إن دين الله عز وجل في يسر ثلاثا يقولها وقال يزيد مرة جعل الناس يقولون يا رسول الله ما نقول في كذا ما نقول في كذا........ )) فتح الباري شرح صحيح البخاري ومجمع الزاوئد ومنبع الفوائدو مسند الإمام أحمد
ولقد أمر الشارع بالتيسير وعدم التعسير فقال صلى الله عليه وسلم (يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا " (البخاري) وعلق عليه ابن حجر بقوله: ( المراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالباً الازدياد ...)
بل ان المسامحة والتيسير ورفع الحرج والتساهل ارادة المشرع سبحانه من التشريع فهو مع كونه سبحانه كلف البشرية والتكليف فيه الزام ومشقة غير أن هذا الإلزام وتلك المشقة ليست عسرة التطبيق فيستطيع المكلف أن يأتي بما كلف به بدون ارهاق ولا عنت {وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة220 غير أن هذه لم يكن والذي أريد للبشرية تشريعياً يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال تعالى مراعيا حالة الضعف البشري والتي تسيطر عليه من خلال تكوينه الجسدي وتركيبه الشهواني {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }النساء28
فلكونه ضعيفا (( ناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته ) ابن كثير
من مظاهر التيسير في الحج وبعد أن أدركنا طبيعة هذا الدين ومقصده في هذا الجانب فإن هناك ممارسات فعلية ووقائع عملية لهذا المقصد على أرض الواقع وحتى لا يظل الدين عبارة عن نظريات مثالية لا علاقة له بالواقع كانت تلك التطبيقات العملية في فريضة الحج كواحد من النماذج الذي سار بها الاسلام في معاملة أبنائه ليفرض عليهم قضية التسامح والتيسير وتكون هذه الاخلاق مكون من مكونات الشخصية المسلمة حيث تربت عليها ونشأت فيها وتكونت وتشكلت العقلية المسلمة في رحاب هذا المقصد الاسمى من مقاصد الدين وحينئذ يستطيع العقل المسلم أن يمايز وبوضوح بين الاعتدال والتشدد فما كان من سمته الحرج والاعنات أو الضيق والتشدد فإنه ليس من دين الله ولا مقصود للشرع .
ومن نماذج الحج في ذلك
قال تعالى {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }البقرة196
إن الله سبحانه وتعالى ترك مساحة لعباده الحجيج في اختيار الهدي ونوعه من بهيمة الانعام الثمانية وذلك حسب ما هو ميسور لكل واحد منهم ، فإن إمكان التحصيل على نوع الهدي قد يختلف من زمان الى اخر وان إلزام البشرية كافة بنوع معين محدد ضرب من ضروب الاعنات والحرج قال بن عباس ( أي بقدر يسارته ))
وقال العوفي : عن بن عباس إن كان موسرا فمن الابل والا فمن البقر والا من الغنم . وهذا واضح أنه يدل على سهولة الشرع وتيسيره على الناس
قال هشام بن عروة عن أبيه : إنما هذا فيما بين الرخص والغلاء . وقال العلامة بن عاشور : استيسر بمعنى يسر أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه ومراده جميع وجوه التيسير تفسير بن عاشور قال تعالى {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }البقرة203
الله تعالى يشير في هذه الاية إلى مقصد الحج وهي تقوى الله عز وجل فإذا ما تحققت هذه التقوى فإن استكمال الأيام الثلاثة ليس بمشروط توسعة على أهل الحج توسعة زمانية . وهو تخفيف من الله تعالى على عباده في اباحة كلا الأمرين ولكن أنه من المعلوم أنه اذا أبيح كلا الأمرين فالمتأخر أفضل لأنه أكثر عباده والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم والمتأخر ، فقط قيده بقوله ( لمن اتقى ) قال تعالى ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) البقرة 196
فإن تخيير الله تعالى لعباده هنا يناسب سماحة الاسلام وسهولته وتيسيره على الناس ي أداء الشعائر وهو يتوافق مع ضعفهم وعجزهم فمن الناس من يناسبهم الصيام ويشق عليه الصدقة لعدم وجودها ومنهم من يشق عليه الصيام لضعفه وتسهل عليه الصدقة لغناه ، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يتم النعمة على عباده بإتمام الحج . عَنْ أَبِي الزُّبَيْرَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ بِسَرِفَ حَاضَتْ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنِي آدَمَ يُصِيبُكِ مَا أَصَابَهُمْ فَلَمَّا قَدِمَتِ الْبَطْحَاءَ أَمَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّتْ، فَلَمَّا قَضَتْ نُسُكَهَا، فَجَاءَتْ إِلَى الْحَصْبَةِ أَحَبَّتْ أَنْ تَعْتَمِرَ، فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكِ قَدْ قَضَيْتِ حَجَّتَكِ وَعُمْرَتَكِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلا سَهْلا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ، قَالَ مَطَرٌ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا حَجَّتْ صَنَعَتْ كَمَا صَنَعَتْ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيُّ، نَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: خَرَجْ0نَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ وَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي عليه السلام قال حين أراد القدوم الى مكة وهو بمنى وهو الغد من يوم النحر منزلنا غدا ان شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وفيه ........... انما نزل رسول الله بالابطح لأنه كان أسمح لخروجه )) البخاري ومسلم
وان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابطح (( أو المحصب أو خيف بني كنانة )) وكلها أسماء لمكان واحد وهو مكان بين منى ومكة وهو الى منى اقرب وهو مكان واسع متسع انما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من باب الفريضة ولا السنة وانما نزله توسعة على أصحابه فكما يقول الراوي كان أسمح لخروجه وهذا مظهر من مظاهر السماحة في ا لحج وعدم التشدد وفي مناسك الحج تظهر بوضوح هذه السماحة والتيسير حينما يستفتى النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم أمر على أمر أو تأخير أمر على أمر فيقول صاحب الرسالة ــ الرحمة المهداة ــ
افعل ولا حرج
افعلوا ولا حرج
اذبح ولا حرج
ارم ولا حرج
افعلوا ذلك ولا حرج وقال عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ــ ما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعل ولا حرج وقال في رواية فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال رسول الله افعلوا ولا حرج . وفي ضوء قوله صلى الله عليه وسلم (( افعل ولا حرج )) يتبين سماحة الاسلام في أداء التكاليف ما دام أن مقصود الشارع لم يفرض تقديم أحد التكاليف على الأخرى تاركا مساحة واسعة لحركة الانسان وظروفه مراعيا بذلك جهله
ونسيانه .

الحج وحرمة المقدسات والدماء والأموال وربطها بالمسجد الأقصى

الحج وحرمة المقدسات والدماء والأموال وربطها بالمسجد الأقصى لقد بين النبي حرمة المقدسات الإسلامية وأن لها قدسيتها التي يجب أن تصان وتحترم فلقد بين لنا في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال ل(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )) وإن كانت كل دولة لها معالم مقدسة ورايات وأعلام مرفوعة وحرمات مصونة وسنت لها من القوانين ما يحفظ هذه الحرمة ويحمل العامة والخاصة على احترامها وتقديسها وتعاقب من اعتدى عليها وأهدر حرمتها أو المجرد المسيس بها فالإسلام ليس أقل شأناً وأصغر أمراً من هذه الدول الوليدة وتلك القوانين والدساتير الموضوعة المؤلفة من حفنة من البشر بل الإسلام أرفع قدرا وأعلى شأنا في حمايته للمقدسات ورعايته للحرمات فجعل الله تعالى احترام تلك الشعائر والمقدسات (( أزمنة وأمكنة وممارسات فعلية من العبادات )) دلالة على وجود التقوى في قلب المؤمن قال تعالى { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } الحج30 { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } الحج32 وقال تعالى مذكرا من فكر مجرد فكرة للإعتداء على حرمات المسلمين في بقاع مكة المقدسة { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الحج25 ويذكر القرآن أن القبلة التي كان يتوجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبل تحويلها إلى الكعبة, حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلت، وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } البقرة143 وأنه أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة كما قال سبحانه: (واستمع يوم يُنادي المُنادِ من مكانٍ قريبٍ) . "قال قتادة وغيره: كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة, وهي أوسط الأرض" . قال ابن تيمية رحمه الله: "ودلّت الدلائل المذكورة على أن (ملك النبوة) بالشام والحشر إليها, فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام, كما أن مكة أفضل من بيت المقدس, فأول الأمة خيرٌ من آخرها، كما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام, كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى[1][1].
وفي الحديث أن النبي بين حرمة المقدسات وربط بينها وبين حرمة الدماء والأموال والأعراض فقال النبي ((أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت)) سيرة بن هشام فإن دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم ليست بالرخيصة بل أغلى من كل غالي وأرفع من كل نفيس قال النبي : والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا. رواه النسائي وهو حديثٌ صحيح . وقال : لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم . جاء موقوفاً عند الترمذي.
وحرمة الدم عظيمة أعظم من حرمة الكعبة التي قال النبي مخاطباً إياها وهو يطوف بها : ما أطيبك وأطيب ريحك . ما أعظمك وأعظم حرمتك . والذي نفس محمدٍ بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك . رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح وكذلك ربط الإسلام المقدسات بالمسجد الأقصى فهـو ثـاني المساجد وضعاً في الأرض بعد المسجد الحـرام ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال :المسجد الحرام . قال : قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصله ، فإن الفضل فيه " رواه البخاري . وفي الحديث تأكيد على وحدة المصير بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى فهما في بداية البناء سواء وهكذا يجب أن يبقيا سواءً بالحفظ على بناءهما على كل حين ، فالحفاظ على بناء المسجد الحرام والاهتمام بشأنه كالحفاظ على بناء المسجد الأقصى والدفاع رعنه واستخلاصه من أيدي الغاصبين إن على المسلمين أن يقوموا على بناءه وتطهيره ونجدته : روى ابن ماجة في سننه عن ميمونة مولاة رسول الله قالت: "قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال: "أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره" وروى عن رسول الله قوله: "من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء"
وكذلك نهى النبي عن تهوين شأنه في نفس المؤمن فعن سلمان قال : ( قيل له لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ، قال: أجل لقد نهانا صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن لا نستنجي باليمين وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار أو يستنجي برجيع أو عظم ) . قال الشيخ الألباني : صحيح . والقبلتان هم المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهنا لابد أن يدرك المسلمون أنهم قد فرطوا في هذه المقدسات وسمحوا أن يستقبل المسجد الأقصى بأشد من البول والغائط . من منا لا يعلم أن أهل الشرك يدخلون المسجد الأقصى ويتجولون في ساحاته ومحرابه !!! من منا لا يعلم أن مئات العاريات تدخلن المسجد الأقصى من كل أبوابه ؟؟ !!!!! من منا لا يعلم أنه يدخله كل يوم أناس كثيرون منهم صاحب الجنابة وصاحب الرزيلة والحائض بل وصاحب شرك أكبر ، استبيحت في باحاته الحرمات فإن قال قائل لا أعلم فتلك مصيبة أكبر . ولقد ربط الاسلام مباشرة بين الحج والعمرة وبين المسجد الأقصى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في الإحرام بالحج أو العمرة من المسجد الأقصى، فقال: "من أهلّ بعمرة من بيت المقدس غفر له" رواه ابن ماجه، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة". وعن أبي عباس قال: " من حج وصلى في مسجد المدينة ومسجد الأقصى في عام واحد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة). وفي رواية عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وفي رواية: (غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تاخر) (رواه ابو داود والقزويني). وعن أم حكيم: من أهل بعمرة من بيت المقدس عدلت عشر غزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ربط النبي في غير الحج بين المساجد الثلاث الحرام والنبوي والمسجد الأقصى من خلال أداء الشعائر و إقامة الصلاة ففي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال : تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل : مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو مسجد بيت المقدس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن أن لا يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا - أو قال : خير من الدنيا وما فيها - ». الطبراني في المعجم الأوسط والحاكم في المستدرك ففي الحديث الشريف نلاحظ تأكيد رسول الله أفضلية على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام والنبوي فرسول الله يقول في المسجد الأقصى (( فلنعم المصلى هو )) ولنعلم أن هذه الأفضلية أفضلية دائمة مادامت الدنيا. وكذلك ربط النبي بين فضل من أحيا فيه الشعائر وأقام فيه الآذان وجعله في الفضل ثالث ثلاثة . فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله: أي الخلق دخولا الجنة? قال: (الأنبياء) قال يا نبي الله: ثم من? قال: (مؤذنوا المسجد الحرام). قال: يا نبي الله: ثم من? قال: (مؤذنوا مسجدي هذا). قال يا رسول الله: ثم من? قال: (سائر المؤذنون على قدر أعمالهم). وهكذا ربط الإسلام بين المقدسات الثلاث المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى من خلال الحج وغيره وأضحى الأمر واضحاً وفي وضح النهار مدى اهتمام الإسلام بأهله ومقدساتهم ليعلم الدنيا كلها أنه دين الانتماء وحب الأوطان ورعاية الحرمات . [1][1] مجموع فتاوي ابن تيميه 27/443.